إن نظرية التعلم التي تتجاهل مقاومة التعلم هي نظرية تتجاهل جوهر التعلم بالكلية – إيديث أكيرمان
A Theory of Learning that ignores resistance to learning missies the point – Edith Ackerman
لا أذكر كم مرة قرأت فيها هذه العبارة ولم اتوقف عندها كثيرًا وشعرت أنها متناسقة مع أفكاري وما اؤمن به. إلا إنني أريد أن أروي قصة حدثت معي شعرت فيها بالتناقض بين ما اؤمن به بشكل نظري وبين محاولات تطبيقه . كنت مسئولة عن برنامج تدريبي للمدربين يضم حوالي 30 مدربًا ومدربة من خلفيات مختلفة أغلبها بين الهندسة والتصميم. وكان على هؤلاء المدربين بعد ذلك تدريب مجموعة كبيرة من المعلمين، حوالي 120 معلم في مدن مختلفة. ولٍكبر العدد والانتشار في المناطق، كان يعنيني حقًا أن يتبع المدربون طرق التدريب التي نراها صحيحة، لذا كتبنا في أهداف التدريب :
- إرساء ممارسات مشتركة بين المدربين حول طرق التدريب
- التعرض لبعض النظريات والأفكار الخاصة بالتعلم الإبداعي (التعلم من خلال المشاريع خاصة) وممارستها
كان الأمر يبدو بالنسبة لي بديهي . اتستقطبنا مجموعة مدربين لديهم خبرة تقنية عالية سواء في التصميم والبرمجة والهندسة، ودورنا أن نعطيهم مهارات للتدريب والتعليم بناءً على ما يقوله العلم والنظريات. فكرنا في تسلسل منطقي للتدريب كالتالي
- نعطيهم ورشة عملية حول موضوع ما في المنهج الذي سيقوموا بتدريسه مع المعلمين ونطبق نحن في هذه الورشة المهارات التي نؤمن بها ونرغب أن يكتسبوها هم.
- نعطي بعد هذه الورشة العملية ورشة أخرى نظرية نشرح فيها لماذا قمنا بما قمنا به في الورشة الأولى ، فلسفة تصميمنا للورشة والنظريات التي اتبعناها ونعرض عليهم الإطار الذي عليهم أن يتبعوه.
- في الأيام التالية سنقسم المدربين لمجموعات وتقوم كل مجموعة بإعطاء ورشة عملية للمجموعتين الآخرتين. وبذلك في أيام التدريب سيمر كل مدرب بتجربة المعلم والمتعلم.
- تتبع كل ورشة جلسة تأمل مرة أخرى حيث يسمع المدرب أراء من حضورا الورشة في طريقة تدريبه، النقاط الإيجابية والنقاط التي تحتاج إلى تحسين ونحاول العودة إلى الإطار والمباديء التي وضعناها في اليوم الأول.
كنت أشعر أن الأمر بديهي، وأن بمجرد ما سيعي شخص طرق التعلم التي نتحدث بها فسيرغب في تطبيقها لأنها أقرب إلى الفطرة وطبيعتنا في التعلم. شعرت أنهم إذا تعرضوا للتجربة في البداية وتعلموا بهذه الطريقة المختلفة ، فسيؤمنوا بصحة ما أقوله . أخبرتهم في أول يوم أنني أقدر خلفياتهم ومهاراتهم، وأن كثير منهم قد درب من قبل ولكن في هذا البرنامج عليهم أن يسيروا على الإطار الذي وضعناه وطرق التدريس التي أتحدث أنا عنها، وذلك لضمان جودة التجربة.
في الأيام التالية اكتشفت أن ما كنت أراه بديهي هو عكس البداهة كليًا. في كل يوم أراقب المدربين وطرق تدريبهم وأنزعج “هذا عكس ما قلته في اليوم الأول..هذا عكسه تمامًا..أنا قلت في اليوم الأول أن نقلل من الشروحات وأن نعطي مساحة ولكن ما أراه العكس..أنا قلت في اليوم الأول وشددت على كذا…لماذا يقوموا بعكس كل ما قلته”
أجلس مع المدربين والمتدربين في نهاية كل يوم وأسمع أرائهم. أعطي تعليقات وتوجيهات . ولا أستطيع أن أتخلى عن فرض ما أراه صحيحًا وما يجب أن يكون إلى أن استوقفني محمود – وهو اسم مستعار لأحد المدربين- معترضًا بحدة “لماذا على أن أتبع الطريقة التي تقولينها…لماذا لا أسير على طريقتي والتي أرى أنها أصح!!…إنت بتقولي اعطيهم مساحة..طيب أنا ما بدي أعطيهم مساحة..أنا جربت قبل هيك وعارف شو بعمل.”
تفاجئت من اعتراضه وشعرت بالإحراج. قلت ” أنا لا أقول أن ما أقوله هو الأصح ..ولكنه صحيح، وهناك ما يدعمه من أبحاث ودراسات. أنت أيضًا لن تعرف أن ما تؤمن به هو الأصح إذا لم تجرب طرق أخرى وتختبر فاعليتها . لا شيء يثبت أن ما تقوله هو الأصح. أعط لنفسك فرصة للتجربة والتأمل. وهدفنا حاليًا ليس البحث عن الأصح، ولكن اختيار طريقة صحيحة نسير عليها جميعًا كي يصبح أسلوبنا متشابه عندما نتفرق في المدن. وهذا ما ذكرته في اليوم “الأول.
سكت محمود. وفي الأيام التالية رأيت أنه فعلًا يحاول تجربة بعض الأفكار التي أقولها. وأنه يسمع بهدوء للتعليقات. كنت أًكذب حدسي وأقول أنني أراه كذلك فقط لأنني أرغب أن أراه كذلك .إلى أن أتى في آخر يوم في التدريب في جلسة تأمل ختامية لما قمنا به أثناء التدريب وقال ” في أول يوم لم أكن مقتنع بما تقوله مريم ثم قلت لنفسي أنني مضطر أن أكمل هذا التدريب لخمسة أيام متبقية، وأنني سأسمع هذا الكلام كل يوم..وبما إني هيك أو هيك حاضر التدريب..خليني أجرب…اللي بتقوليه صحيح بس بينفع في بيئة تعلم مشابهة لما نقوم به الآن وليس في كل بيئات التعلم. هناك مواضيع وبيئات لن يصلح فيها ما تقوليه أبدًا.
وبالمناسبة ..أنا أعطيت نفسي فرصة للتجربة ولو لم أعطٍ نفسي هذه الفرصة لكنتٍ خسرتيني من اليوم الأول. كنت سأقضي بقية الأيام في التدريب أصم. ومن الممكن أن يأتي معلمين كثيرين مثلي وستخسرينهم من اليوم الأول.”
أروي هذه القصة الآن ليس لأقول أني انتصرت وأنني نجحت في إقناع محمود بما أؤمن به. ولكن للتأمل في تجربة المعلم والمتعلم والتعلم.
من ناحيتي أنا كمعلمة وبينما أكتب وأستعيد ما قلته للمدربين بأنني أقدر خبراتهم ولكن عليهم أن يسيروا وفق النهج الذي وضعناه نحن، أشعر بسخافة ما قلته وكيف أنه مناقض لكل ما أؤمن به وتحدثت عنه من قبل. [1] أنا أطلب منهم أن يضعوا كل خبراتهم وممارساتهم على جنب ويتبعوا ما أقوله، وكأنهم أوعية خالية أملئها بما أريد. والغريب أنني كنت متعجبة لمقاومتهم لتلك الأفكار سواء بوعي أو بدون وعي.
ما قمت به كان كالتالي
بينما ما أفكر فيه الآن هو كالتالي وما أؤمن به حتى من قبل هذه التجربة
لن يغير أحد قناعاته وما يؤمن به لمجرد أن أخبره أحد آخر بما هو صحيح نظريًا، وهو ما أعنيه بمقاومة التعلم. بعد هذه التجربة أصبحت أكثر هدوءً مع المتعلمين معي. أجد تفسيرًا لماذا عندما أقول وأشرح ” مفيش حاجة اسمها إني بوصل المعلومة ..المعرفة تُبنى ولا تُنقل” ثم يسألني أحدهم اليوم التالي عن الطريقة المثلى لتوصيل المعلومة. أقول في نفسي حينها نحن تربينا لسنوات طويلة أن المعلم المثالي هو من لديه طريقة مبهرة في توصيل المعلومة، كيف أتوقع أن تُمحى كل هذه السنوات والتجارب لمجرد أني شرحت نظرية عن التعلم بالبناء. أفكر أيضًا في التناقض بين ما اؤمن به نظريًا وبين كبيفية تطبيقه. الحياة أسمى من الفكر. التجارب التي نخوضها مع البشر وتأملنا فيها ومحاولة تشكيل وعينا أكبر وأعقد بكثير مما يُكتب في الكتب وتحاول تفسيره النظريات.
من ناحية أخرى أفكر في تجربة المتعلم، محمود والذي وعى مبكرًا التناقض بين ما يسمعه ويًفرض عليه وبين تجربته هو الشخصية وما يؤمن به ومحاولاته لحل هذا التناقض. قبوله لخوض تجربة جديدة والتأمل فيها واستخلاص نتائجه هو وليس نتائج محددة مسبقًا مفروضة عليه. تعبيره بحرية وقدرته على صياغة أفكاره بوضوح. كل هذه مهارات مهمة يمكننا أن نساعد متعلمينا أن يكتسبوها بدلًا من أن نشعر أنهم أغبياء لأنهم لا يعوا ما نقوله. كل ما ساعدنا المتعلمين أن يعوا هذا التناقض ويعبروا عنه، وكلما تأملنا في ممارساتنا نحن كمعلمين وفي خبرات متعلمينا التي يأتوننا بها وما الذي أدى لهذ التناقض، كلما ساهمنا في خلق تجارب تعلم ذات معنى لنا وللمتعلمين. ليس كل المتعلمين لديهم هذه المهارات. البعض قد يصم آذانه من اليوم الأول كما قال محمود. ولكن الكثير لن يعي أصلًا بهذا التناقض. قد يشعر أن ما تقوله جميل ومنطقي وأنه يطبقه بينما هو عكس ما يقوم به كليًا.
تلك العلاقة بين المعلم والمتعلم، طرح فكرة ومحاولة التأمل في تجارب المتعلمين والتعلم منها، مراجعة أفكارنا وما نؤمن به والسعي لإيجاد الإجابة من المتعلمين في الحياة ومن المعارف في الكتب والأبحاث، هذا ما أؤمن أنه دور المعلم.
وأنتم..هل واجهتم موقف من قبل شعرتوا فيه بمقاومة التعلم سواء كنتم معلمين أو متعلمين ؟ شاركونا قصصكم في التعليقات
_____________________________________________________________________________
[1] يمكنك الرجوع لهذه التدوينات حول نفس الفكرة
عن يوسف وجدته التي ليست جدته
نحو بناء المعرفة في الفصول الدراسية
جميل يا مريم. فتح الله لك. ما ذكرته مهم من ناحية احترام المتعلم وحقه في قبول أو رفض ما نقدمه بشكل واع أو غير واعٍ. ولعله باعث لنا على التواضع وتذكرةٌ بأن النبي عليه الصلاة والسلام، خير المعلمين، ما بعث إلا بالبلاغ وليس بإلزام الآخرين “بالاقتناع” بما جاء به. فيما أرى، واجبي أن أحاول فهم المتعلم لأتحرى مثل هذه العقبات التي ذكرتها وأساعده على تجاوزها، ولكن ذلك لا يلغي دوره في السعي ومحاولة الفهم وحقه في رفض ما نقدمه سواء من الناحية المعرفية أو الوجدانية (وأظن أنه كلما ازداد احترامنا لإنسانية المتعلم قلت فينا الرغبة في محاولة إلزامهم أفكارنا).
إذا انتقلت من حالة محمود (المقاوم الواعي) إلى حالة الواقع بالتناقض غير الواعي به، فقد تكون الحالة الثانية حالة انتقال من فكرة إلى أخرى (أو accommodation كما يقول بياجيه) يحتاج فيها المتعلم المساعدة على الانتقال من بنية ذهنية قديمة لطالما شكلت تفكيره، حتى وإن كان يقوم بذلك طائعًا راغبًا.
عندما أبحث عن ميسرين أن مدربين لمشروع ما، صرت أشارك في إعلان العمل بعضًا من تدويناتي ليقرؤوها ونناقشها في مقابلة العمل. بذلك صرت أعرف في وقت مبكر من عنده استعداد لأداء بعض ما عليه كمتعلم وأستبعد مبكرًا من لديهم مقاومة عالية للأفكار التي سنعمل وفقها وأركز على من لديهم تقبل مبدئي لها–وهذا التقبل ليس مجرد تقبل باللسان، وإنما يظهر في قدرتهم على نقاش الأفكار وحتى نقدها ومساءلتها بشكل جيد.
أمر أخير، ذكرتني تدوينتك بمقالة قرأتها منذ زمن عن دور رضا المتعلم عنوانها “لن أتعلم منك!” تجدينها بسهولة على الإنترنت.
I Wont’ Learn From You! Thoughts on the Role of Assent in Learning by Herbert Kohl