عن الصواب والخطأ 2/2

توقفنا في التدوينة السابقة عن ما الذي تعنيه البيئة الآمنة؟ وما الذي يمكن للمعلم فعله لخلق هذه البيئة؟.  البيئة الآمنة هي المكان الذي يستطيع فيه الإنسان سواء كان صغيرًا أو كبيرًا أن يُعبر عن أفكاره وعما يدور بداخله  بحرية وبدون خوف.  والخوف  ليس المقصود به هنا  الخوف من العقاب أو من الصوت العالي فحسب فهناك أنواع كثيرة  من الخوف منها:الخوف من أنني لست جيدًا بما فيه الكفاية فهناك دائمًا من هو أفضل مني، ذلك الأفضل الذي يتلقى دائمًا المدح والتقدير، أنا أحاول ولكنني  لن أكون يومًا مثله، وهناك الخوف من أنني لم أصل لما هو مُتوقع مني فهؤلاء الكبار يتوقعون أنني سأحصل على درجة عالية أو أنني سأجيب على السؤال بطريقة صحيحة من أول مرة.  الخوف من الخطأ لأن الخطأ دائمًا غير مقبول .

كل هذا الخوف يكون دائمًا غير مُلاحظ ويمر مرور الكرام. رأيت اليوم مثًلا عندما سألت معلمة سؤالًا بسيطًا فرفعت بنت يدها بتردد وقبل أن تُجيب سألت “عادي أتوقع؟”  وعندما طمأنتها المعلمة أنه “طبعًا عادي” أكملت البنت إجابتها. أثر في هذا السؤال البسيط “عادي أتوقع” وفكرت بماذا كانت تُفكر البنت، لماذا أرادت أن تتأكد أنه مقبول في هذه البيئة أن تعبر عن إجابتها بحرية حتى لو كانت خاطئة؟ لم أجد تفسير سوى أنها كانت خائفة.

إذَا ما الذي يمكن للمعلم أن يفعله لخلق بيئة آمنة لطُلابه؟ هناك بعض الإستراتيجيات التي يمكن أن يتبعها المُعلم ليشعرهم بالأمان في بيئة التعلم ، شاهد مثلًا هذا الفيديو

اطرح مشكلة تتضمن حلولًا عديدة 

التفكير في البيئة الآمنة يبدأ من مرحلة الإعداد لتجربة التعلم. فمن البداية عند طرح مشكلة أو موضوع يتضمن حلولًا مًتعددة بدلًا من إجابة واحدة صحيحة يفتح بابًا للتنوع والإختلاف حيث يرى الطُلاب ومعلمهم أن هناك  طرائق عديدة نصل من خلالها للنتيجة المرغوبة بدلًا من أن نسير جميعًا على نفس الطريق. ففي الفيديو مثلًا ستجد أنها طرحت أمامهم مشكلة تصميم فلتر المياه، ثم أعطتهم أدوات مُختلفة يُجربوا منها النموذج الخاص بهم،  بدلًا من أن يعملوا جميعًأ مستخدمين نفس الأدوات ليصلوا لنفسج النموذج بإختلافات طفيفة. الخطوة الأهم بعد ذلك هو كيف أنها أخذت دور المستمع المتسائل بدلًا من إطلاق الأحكام السريعة على ما يفعلونه.

تجنب إطلاق الأحكام

إذل لاحظت في الفيديو ستجد أن المُعلمة لم تعطِ إجابات قاطعة ولا تعليقات حُكمية على كل الإجابات التي سمعتها. فبدلًا من الإجابة به  ’’صواب..خطأ..افعل هذا…لا تفعل ذاك..‘‘ كانت تعلق على  ما تسمعه بتساؤل ’’ ماذا تعتقدي أنه يحدث هنا..اشرحلي ماذا ترين..هل تعقتدين أن حجم المواد سيُشكل فرقًا؟..جيد‘‘. انتقاء الألفاظ واللغة المُستخدمة يُشكل فرقًا، فهناك فرق بين أن تسأل طفلًا ’’ما الذي تعرفه عن…أو ما الذي يحدث هنا‘‘ و ’’ ماذا تعتقد أنك تعرف عن..ماذا تعتقد أنه يحدث هنا‘‘، في السؤال الأول تطلب من الطفل أن يُعطي لك حقائق ومعلومات هو مُتأكد أنه يعرفها، وقد يجيب بأنه لا يعرف شيئًا لأنه مثلًا ليس مُتأكدًا، أما في السؤال الثاني فأنت تدعوه ليُعبر عن أفكاره المبدأية حول الموضوع سواء كانت مُكتملة وصحيحة أم لا.
أيضًا ملامح وتعبيرات الوجه قد تُشكل نوعًا من الأحكام الغيرمنطوقة. إذا لاحظت في الفيديو ستجد أن ملامح وجه المعلمة مُحايدة للجميع . لم تُظهر حماسها لطفلة أكثر من طفلة أُخرى، ولم تُخبرنا تعبيرات وجهها أبدًا إذا كان ما تسمعه صحيح وسيصل في النهاية إلى النتيجة المرغوبة أم لا. أحيانًا ينظر الأطفال لوجه معلمهم ويحاولوا أن يفسروا تعبيرات وجهه لكي يفهموا هل يوافق على ما يفعلونه أم لا، وهل ما يفعلونه مرضِ له أم  غير مرضٍ. وعندما يتحرر الأطفال من هذا البحث و عندما يتحرر المُعلم من سلطته الحاكمة على الأطفال، حينها سيشعر الأطفال بالأمان.

إذن فالتساؤل والإنصات بدلًأ من فرض الإجابات  وإظهار الإهتمام الحقيقي وليس المصطنع لما يفعله الطُلاب بدون تمييز بينهم وحثهم على التعبير عن أفكارهم بشكل أعمق سيجعل الطُلاب في النهاية يشعرون بالأمان،سيوصل لهم إحساس أن كل محاولاتهم وسعيهم مقبول ومُرحب به وأنهم على إختلاف قدراتهم لا فضل لواحد منهم على الآخر وأن ما يهم في النهاية هو السعي والمحاولة وليس الوصول للإجابة الصحيحة بأسرع وقت.

كن حذرًا عند المدح

قد لا يختلف إثنان على تجنب الذم والتعليقات السلبية، ولكن ما أختلف فيه كثيرًا في نقاشي مع معلمين هو فكرة تجنب المدح.  فغالبًا أجد تعليقات مثل’’طيب أين التشجيع..أين إحساس الطفل أن ما فعله كان جيدًا  ويستحق الثناء…أين تحفيز الباقيين على فعل الصواب مثل هذا الطفل الرائع..‘‘ وتكمن المشكلة هنا في نقطتين:

1- الإعتقاد الشائع بأن المدح المُستمر للذكاء والقدرات يُحفز الأطفال على النجاح والإستمرارية، ولكن العكس هو الصحيح، فمدح قدراته وذكائه يجعله حريص على أن يحافظ دائمًا على الصورة التي بنيتها أنت عنه وسيجعله يبحث دائمًا عن مدحك له، مما يدفعه لتجنب المخاطرة والتجارب الجديدة خوفًا من الإخفاق والفشل. فكأن الطفل يقول لنفسه ’’أنا لا أعرف جيدًا كيف أقوم بهذا الشيء، يمكنني أن أجرب وهذه التجربة تحتمل النجاح والفشل، ولكن إذا فشلت هذا معناه أنني لست ذكيًا وبارعًا كما يعتقدون عني ..لذا فمن الأفضل ألا أحاول أصلًا‘‘.[1]

2- مدح ما يفعله طفل دون الآخرين يولد نوع من الشك والخوف لدى الآخرين، خذ مثلًا هذا السيناريو: طرحت المعلمة سؤالًا فأجابت سلمى إجابة ما، علقت المعلمة ممتااااز …رائع سلمى، فرحت سلمى بهذا التعليق ولكن على الجانب الآخر هناك لمى التي كان يدور برأسها إجابة مُعاكسة تمامًا لإجابة سلمى لذا دار في رأسها هذا التساؤل ’’ إذا كان هذا المدح لسلمى لأنها أجابت إجابة صحيحة، فماذا سيكون رد المعلمة إذا كنت أجبت إجابتي الخاطئة؟..من الأفضل ألا أشارك في هذه الأسئلة مرة أُخرى كي أتجنب الإحراج‘‘.

في النهاية وإن كنت ذكرت إستراتيجيات  من هنا وهناك فكل هذا لن يقوم به إلا مُعلمًا به قدر من التعاطف والمحبة لمتعلمينه، وقدر من التفهم والصبر. معلمًأ يعي أن دوره ليس نقل المعرفة والمعلومات ولكن مُيسر لعملية التعلم، وهو ربما ما سنتحدث عنه بتفصيل أكثر في تدوينة اُخرى.


[1] يمكن الرجوع في ذلك للأبحاث التي قامت بها الباحثة كارول دويك حول هذا الموضوع والذي دونته في كتاب Self Theories

3 رأي حول “عن الصواب والخطأ 2/2

اضافة لك

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

المدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: